السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
سُئل الإمام أحمد - رحمه الله -: كيف أصبحت؟ فقال: كيف أصبح مَن ربُّه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيُّه بأداء السُّنة، والملكان بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟! فالمطالب كثيرة والعمر قصير، فالبدار البدار.
هذه بعض الواجبات، وليست كل الواجبات، فأنت مُطالب كذلك بتحقيق العبودية لله؛ {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، فإقامة التوحيد لله من أجلِّ المطالب التي يسعى العبد في تحقيقها؛ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، هذا الواجب الذي كان يشغل جميع الأنبياء والمرسلين، بل هو أساس بعثة الرسل، ومقصد الناس جميعًا؛ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ومن شدة حرص الأنبياء والمرسلين على هذا الواجب؛ كانوا يسألون أبناءهم وذريَّاتهم وأمَّتهم عليه، حتى في حالة الاحتضار التي يكون الإنسان مشغولاً بأمور عظام؛ { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].
ويدخل في الواجبات التي يُطالب بها الإنسان بعد توحيد الله بإفراده بالعبادة - توحيدُ الاتِّباع، وذلك بإفراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة الخاتمة والطاعة والامتثال، وهذا معنى قول الإنسان: "أشهد أن محمدًا رسول الله"، التي يردِّدها المسلم في جُلِّ العبادات، ولا سبيل للنجاة من النار ودخول الجنة إلا بتحقيق الأمرين: توحيد العبادة لله، وتوحيد الرسالة والطاعة والامتثال لرسوله - صلى الله عليه وسلم.
وهناك واجبات أخرى لم يذكرها الإمام أحمد عندما سُئل كيف أصبح؛ لأنه أعطى نماذج فقط لهذه الواجبات، ومن هذه الواجبات: برُّ الوالدين، وصلة الأرحام، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الزوجة والأولاد والجيران، وإلى الناس جميعًا، حتى غير المسلمين، طالما أنهم غير محاربين، بل ويدخل في هذه الواجبات الإحسان إلى الحيوانات، بل وإلى الجمادات؛ بإعطاء الطريق حقَّه، والاهتمام بالبيئة، ومحاربة كل ما يضرُّ بها، فكلُّ هذه واجبات، وهي أمانة في عُنق الإنسان، وهي كثيرة كما أخبر الإمام أحمد بذلك، حيث قال: المطالب كثيرة، والعمر قصير".
ورغم كثرة الواجبات الملقاة على عاتق المسلم، فإن هناك عوائقَ تعوق الإنسان، والتي منها: نفسه التي لا مطمع لها إلا إشباع هواها، والركون إلى ملذاتها وشهواتها، وإبليس الذي يأمر بالفحشاء والمنكر، والأولاد الذين يريدون حقوقهم، والتي منها النفقة، فالواجبات حقًّا أكثر من الأوقات، ويحتاج الإنسان إلى أعمار مديدة كي يحقق هذه المطالب، فلابدَّ للإنسان من ترشيد الطاقات ومراعاة الأولويات، الأهم ثم المهم، وهذا ما أكَّده الشرع الحنيف وأمر به؛ فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالي: وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به))؛ (رواه البخاري).
فالحديث وضع لنا قاعدة في غاية الأهمية، ألا وهي الاهتمام بإقامة الفرائض أولاً؛ "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه"، ثم بعد ذلك تأتي النوافل في المرتبة الثانية؛ "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل"، ولن يقبل الله نافلةً حتى تُؤدَّى فريضة، ولا يعني إتيان النوافل في المرتبة الثانية أن نهملها أو نتركها؛ لأن النوافل هي السياج الواقي الذي من خلاله نحافظ على الفرائض، فكلاهما متلازمان.
وكي يحقق الإنسان كلَّ هذه الواجبات المتزاحمة والمتشابكة مع غيرها من النوافل والأمور الأخرى في ظلِّ قصر العمر؛ لابدَّ له من الآتي:
أولاً: لابدَّ من الموازنة بين الواجبات والمستحبات:
فإذا تعارضت حسنتان لا يمكن الجمع بينهما، أن يقدَّم أحسنهما بتفويت المرجوح، كتقديم الواجب علي المستحب، وفرض العين على فرض الكفاية، وقضاء الدَّين على صدقة التطوع، وحاجة الجماعة على حاجة الفرد.
وهذا الفقه يغيب عن كثيرٍ من أفراد الأمة الإسلامية، فترى بعض الطيبين من يتبرَّع ببناء مسجد في بلدٍ حافل بالمساجد، قد يتكلَّف نصف مليون أو مليونًا أو أكثر، من الجنيهات أو الدولارات، فإذا طالبته ببذل مثل هذا المبلغ، أو نصفه، أو نصف نصفه في نشر الدعوة إلى الإسلام، أو مقاومة الكفر والإلحاد، أو في تأييد العمل الإسلامي لإقامة الشرع وتمكين الدِّين، أو نحو ذلك من الأهداف الكبيرة، فإذا طالبتهم بذلك، لوَّوا رؤوسهم؛ وذلك لغياب فقه التعامل مع الواجبات والحسنات.
ثانياً: استحضار قيمة وشرف الزمان:
يقول ابن الجوزي - رحمه الله -: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيِّع لحظة في غير قربة، ويقدِّم الأفضل فالأفضل من القول والعمل"؛ "صيد الخاطر"، (1/ 46)، وقال الرافعي: "إن يومًا باقيًا من العمر للمؤمن عُمْرٌ ما ينبغي أن يُستهان به"؛ "وحي القلم"، (1/ 235).
لذا؛ كان سلفنا الصالح أشدَّ الناس حرصًا على أوقاتهم، فدقيقة واحدة عندهم أغلى من كنوز الأرض كلها؛ لأن الوقت رأس مال الإنسان، بل الوقت هو حياته، فهذا ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله - يقول: " لا يحل لي أن أضيِّع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره"؛ "ذيل طبقات الحنابلة"؛ لابن رجب، (1/ 145- 146).
وقال- أيضًا -: "وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفَّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ"؛ "ذيل طبقات الحنابلة"، (1/ 146).
ولهذا خلَّف - رحمه الله - آثارًا عظيمة؛ منها: كتاب " الفنون"، الذي قيل عنه: "إنه بلغ ثمانمائة مجلدة"؛ "ذيل طبقات الحنابلة"، (1/ 156).
ومن العجائب التي جرت لابن حجر العسقلاني - رحمه الله - كما نقل السخاوي: "وأسرع شيء وقع له أنه قرأ في رحلته الشامية معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، قال: وهذا الكتاب في مجلد يحتوي على نحو ألف وخمسمائة حديث"، فالإنسان يستطيع أن يطيل عمره، ويمدَّ حياته إلى ما شاء الله بعد موته، فيحيا وهو ميت، ويؤدي رسالة الأحياء وهو مقبور، وكلُّ ذلك عن طريق استغلال الأوقات فيما يرضي ربَّ السماوات، وفيما ينفع المسلمين.
ثالثاً: تحديد الهدف:
فما أعتبر من يمشي في الطريق بلا هدى، فتمرُّ عليه مراحل عمره وهو ساهٍ لاهٍ، يتخبَّط في حياته، يضيِّع عمره فيما لا ينفع، بل ويفخر بذلك؟! فنرى أحدهم يقتل وقته، فإذا سألته عن ذلك قال: أنا أقتل الفراغ، وما درى المسكين أنه يقتل نفسه! وسبب ذلك التخبُّط هو عدم تحديد الهدف، فتحديد الهدف من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على تحقيق الواجبات، لذا عبر ربيعة بن كعب الأسلمي عن مطلبه بكلِّ وضوح عندما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: ((سلني))، قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أوغير ذلك))، قال: بل هو ذلك، فقال له: ((أعنِّي على نفسك بكثرة السجود))"؛ (رواه مسلم).
هذا الرجل الذي كان يعمل خادمًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من أهل الصُّفة يعرف هدفه وطريقه، فقال مباشرةً ولم يعدَّ الإجابة من قبل: مرافقتك في الجنة.
رابعاً: أن يجدَّ الإنسان ويخلص في سبيل الوصول لهدفه :
لا يكفي مجرد تحديد الهدف، وهو مرضاة الله ومرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، بل لابدَّ معه من الجدِّ والإخلاص حتى يصلَ الإنسان إلى ما يريد في أقرب وقت، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما حدد لربيعة بن كعب الأسلمي هدفه، بيَّن له أن الوصول إلى الهدف يحتاج إلى جدٍّ وإخلاص؛ لذا قال له: "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود، وكان أحمد بن حرب يقول: عجبًا لمن يعرف أن النار تسعر تحته، والجنة تزين فوقه، كيف ينام؟!".
ولن يصل العبد إلى هدفه إلا بالاجتهاد والمجاهدة؛ قال – تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وانظر إلى جِد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق أهدافه، ففي ثلاث وعشرين سنة قام بغزوات وحروب، وسنن وزيارات، وتعليم ودعوة، وسعي على رزق وإخراج جيل، بل أجيال تحمل الدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وقبل كلِّ ذلك لابدَّ من الاستعانة بالله - عز وجل - في تحقيق هذه الواجبات، فالإنسان ضعيف بنفسه، قوي بالله، فاستعن بالله أولاً وأخيرًا ولا تعجز، فإن معك قوة الذي لا يضام.
وما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.